المصرى اليوم
بقلم د.سعد الدين إبراهيم
عرفت السيد جيمي كارتر، بعد أن ترك منصبه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية. وكان قد رأي تعليقاً لي حول اغتيال الرئيس أنور السادات، في برنامج تليفزيوني علي شبكتي الـ «بي. بي. سي» البريطانية (BBC)، والسي. بي. إس الأمريكية. (CBS)، وكان فحوي تعليقي أن متطرفين إسلاميين هم فعلاً الذين أطلقوا النار علي أنور السادات، ولكن الأمريكيين هم الذين وضعوه في مرمي النيران، لقد كان ما قلته تشبيهاً بلاغياً، قصدت به، أن عدم وفاء الولايات المتحدة بواجباتها كراع للسلام، في الضغط علي إسرائيل من أجل استكمال تسوية كاملة شاملة، هو الذي وضع الرئيس في موقف حرج أمام شعبه المصري، وأمته العربية.
ومع ذلك أخذ جيمي كارتر ما قلته ضمن مقابلة أطول، وكأنني أوجه له اللوم شخصياً علي مقتل الرئيس السادات، فقال لي معاتباً في حضور زوجته، روزالين، وأسامة الباز، في قصر الضيافة بالقاهر (إن الكلمات التي قلتها أنا في تلك المقابلة التليفزيونية نزلت عليه كالسكين، وأنني لا أدرك كم أحب هو أنور السادات، وكم أعجب بشجاعته، وكيف اعتبره أخاً عزيزاً.
كذلك لم أدرك في تعليقي كم حاول هو (أي كارتر) أن يصل إلي التسوية المنشودة، ولكن لم يمهله الناخبون الأمريكيون الوقت الكافي لذلك، حيث لم يعيدوا انتخابه لفترة رئاسية ثانية!. وشرحت بدوري أن ما قلته كان تشبيهاً مجازياً يخص السياسة الخارجية الأمريكية عموماً، وأن خليفته في البيت الأبيض، رونالد ريجان، هو الذي يتحمل المسؤولية الأكبر، حيث إنه لم يفعل شيئاً علي الإطلاق في ملف الصراع العربي الإسرائيلي، طيلة فترة رئاسته. ابتسم كارتر مبدياً تفهمه للشرح والتبرير. ومنذ ذلك الحين أصبحت أنا ضيفاً موسمياً علي جيمي كارتر وأسرته، في مدينة أطلانطا، بولاية جورجيا، فقد أنشأ فيها مركزاً يحمل اسمه (Carter Center)، ويقوم بالدراسات والبرامج التنموية، التي تخدم قضايا الحرية والعدالة والسلام في العالم.
ورغم أن عدداً من رؤساء أمريكا السابقين كانوا مايزالون علي قيد الحياة (مثل جيرالد فورد، ورونالد ريجان، وجورج بوش الأب، وأخيراً بيل كلينتون)، إلا أن أياً منهم لم يترك نفس الأثر الذي أحدثه، ولايزال يحدثه جيمي كارتر علي الساحتين الأمريكية والدولية، كرئيس سابق، والآن كـ «مواطن عادي»، بل ويجمع المراقبون علي أنه الآن، كمواطن خارج السلطة، أقوي عشرات المرات مما كان وهو رئيس للولايات المتحدة (١٩٧٦- ١٩٨٠). ففي سنوات رئاسته الأربع كان لكارتر إنجاز ضخم واحد في السياسة الخارجية، تبعه بإخفاق فادح في السياسة الخارجية أيضاً.
كان الإنجاز هو «كامبد دافيد»، واتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية، والتي صمدت رغم كل الانتقادات الموجهة لها عربياً وإسرائيلياً، لثلاثة عقود. بل إن كل الأطراف العربية التي كانت قد رفضتها، وقاطعت مصر الساداتية بسببها، تلهث الآن لتوقيع مثلها، وفي مقدمتهم سوريا، ومنظمة التحرير الفلسطينية. ولأن كامب دافيد كانت الإنجاز الأهم، فإن وثائقها وصورها تملأ القاعة الرئيسية للمتحف الذي يضمه مركز كارتر، في مدينة أطلانطا.
أما الإخفاق الأفدح فقد كان «أزمة الرهائن الأمريكيين» في العاصمة الإيرانية طهران، في أعقاب الثورة الإسلامية التي قادها آية الله روح الله الخوميني، عام ١٩٧٩ وحين أمر كارتر قوات المارينز الممولة جواً أن تحرر هؤلاء الرهائن من مبني السفارة الأمريكية في طهران.
فشلت العملية فشلاً ذريعاً، جعل الأمريكيين يشعرون بالمهانة، التي كانوا قد شعروا بها في «خليج الحنازير»، علي شواطئ كوبا، (١٩٦١)، في ظل رئاسة جون كيندي، أو عند انسحاب قواتهم من سايجوت في الأيام الأخيرة لحرب تحرير فيتنام (١٩٧٦)، وقد أذهبت سيئات أزمة الرهائن، كل حسنات كامب دافيد، لدي الناخبين الأمريكيين فخذلوا كارتر في انتخابات الرئاسة التالية لصالح منافسه ريجان. وطبعاً لا يجد الزائرون لمتحف كارتر نفس تفاصيل الإخفاق مثلما تفاصيل النجاح.
ومن مفارقات القدر أن كلا من إنجاز وإخفاق كارتر ارتبطا بالشرق الأوسط، وليس بأي منطقة أخري من العالم، ولا حتي بالسلطة الداخلية في أمريكا نفسها وربما يفسر ذلك استمرار تلك المنطقة في بؤرة اهتمام كارتر، إلي اليوم، أي بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً بعد مغادرته للبيت الأبيض. من ذلك أنه ألّف كتابين عن القضية الفلسطينية، أحدث آخرهما ضجة واسعة النطاق في العام الماضي، وهو بعنوان «فلسطين سلام وليس فصلاً عنصرياً» (Palestine peace Not Apart hide )، حيث هاجم بشدة سياسات إسرائيل وممارساتها متهماً إياها بممارسة «الفصل العنصري» (Apart hide ) ببنائها للحائط العازل علي أراضي فلسطينية في الضفة الغربية، وقد استأثرت المسألة الفلسطينية بالقدر الأعظم من اهتمامات جيمي كارتر، والمؤسسة التي تحمل اسمه.
وقد قاد بنفسه فريق المراقبين الدوليين الذين تابعوا كل انتخابات فلسطينية منذ ١٩٩٦ وقد زامله في ذلك مركز ابن خلدون، إيمانا منه ومنا أن أي سلطة فلسطينية منتخبة ديمقراطياً، هي الأقدر سياسياً وأخلاقياً علي استخلاص الحقوق المشروعة لشعبها، حيث إن شرعيتها هي التي تبّطل الحجج الإسرائيلية في المماطلة بدعوي أنها الكيان الديمقراطي الوحيد، في محيط عربي من الاستبداد، وأنها بهذه الصفة لا تجد شريكاً فلسطينياً يمكن التفاوض معه، وتوقيع اتفاق يمكن الوثوق في احترامه.
ويؤمن كارتر أن الفلسطينيين بمستوياتهم العالية من التعليم والوعي السياسي والتصميم علي حقوقهم هم أكثر الشعوب العربية جدارة بنظام حكم ديمقراطي، يكون ندّاً حقيقياً لإسرائيل.
ولكن اهتمام كارتر بالمسألة الفلسطينية لم يغفله عن بقية الشأن الإنساني العالمي. وربما طالع من يتابعون مسألة «دارفور»، صوراً لجيمي كارتر، الذي أكمل عامه الخامس والثمانين في أكتوبر الماضي، وهو يحمل علي كتفيه أمتعة الغذاء، والكساء، ضمن المساعدات الإنسانية التي ترسلها مؤسسته، إلي لاجئي ومشردي دارفور (الحياة ٤/١٠/٢٠٠٦). وقد فعل ذلك ضمن وفد «مجموعة حكماء العالم»، والذي يضم أيضاً الأسقف الجنوب أفريقي «دزموند توتو»، والدبلوماسي العربي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي.
ولم يعد كارتر كمواطن عالمي مهموما بالبؤس الإنساني، يتردد في إطلاق كلمة حق، في وجه أي طرف يتجاوز الحدود ـ سواء كان الرئيس الأمريكي جورج بوش، أو إسرائيل واللوبي الصهيوني الذي يقف وراءها، أو الرئيس السوداني عمر البشير، ولذلك لم أستغرب انتقاده العلني للسلطات السودانية التي منعته من لقاء أحد قادة النازحين في بلدة «كبكابيه»، في شمال دارفور، فالرجل يحرص دائماً علي أن يشاهد، وأن يسمع مباشرة من أصحاب المشكلة.
وحين التقيت جيمي كارتر ، في أوائل سبتمبر الماضي، وأخبرني عن أحوال مصر، وعن دقة التقارير الإعلامية عن تعرض بعض أفراد أسرة الرئيس السادات للاضطهاد والتنكيل أخبرته بما أعرفه في قضيتي النائبين طلعت عصمت السادات، وأنور عصمت السادات.
وكنت بدوري أنقل عن أنور عصمت السادات نفسه الذي شارك معنا في مؤتمر «الديمقراطية والإصلاح» بالدوحة (٢٧-٢٩/٥/٢٠٠٧)، وظل علي اتصاله الهاتفي معي، حتي وأنا خارج البلاد. وتساءل الرجل «أليست هناك أوجه شبه بين الحالتين وقضية أيمن نور؟» فأجبته أن كثيرين يعتقدون ذلك فثلاثتهم في نفس المرحلة العمرية مثل جمال مبارك، نجل الرئيس، مع فارق أنهم أكثر تمرساً بالعمل السياسي الشعبي في الشارع.
طلب الرجل أن أطلب من الأخوين طلعت وأنور أن يكتبا إليه مباشرة، حتي يعرف من أصحاب الشأن. وقد نقلت ذلك هاتفياً في حينه إلي طلعت وأنور كما سأل الرجل إن كانا مسموحاً لهما بالسفر، حتي يدعوهما إلي أطلانطا في الملتقي السنوي للمدافعين عن حقوق الإنسان، فأجبته «أن الله وحده أعلم ».
0 comments :
إرسال تعليق