المصرى اليوم
بقلم د.سعد الدين ابراهيم
في سلسلة من مقالاته بعموده في المصري اليوم، ألحّ الزميل مجدي الجلاد علي ضرورة إخراج النظام السياسي، ومعه مصر كلها من «الثلاجة» التي وضعهم فيها الحزب الوطني الحاكم، وقد استعرض الرجل كل الحجج والمبررات، وكذلك الحيل والألاعيب والمناورات، التي استخدمها وما يزال يستخدمها الحزب الحاكم لإبقاء مصر في «الثلاجة» وأرجعها في النهاية إلي سبب حقيقي واحد، وهو بقاء الحزب الوطني وحده في دفء السلطة، حتي إذا تعذب المصريون من شدة البرد، وتجمدوا في نهاية المطاف، والصورة المجازية بالغة الدقة، ويشهد علي دقتها التراجع المطرد لمصر علي معظم مؤشرات التنمية ـ من واقع تقارير الأمم المتحدة، والبنك الدولي، ومنظمة الشفافية الدولية «المعنية بقياس الفساد»، وبيت الحرية freedomHouse (المعني بالشأن الديمقراطي)، ومنظمة العفو الدولية المعنية بحقوق الإنسان.
أكثر من توصيف الحالة المصرية البائسة، شخّص مجدي الجلاد أسباب وأعراض المرض الذي دفع النظام إلي ما لجأ إليه، وهو ادعاء أن خطراً داهماً سيحيق بمصر إذا خرج المصريون من «الثلاجة»، حيث ينتظر «الإخوان المسلمون» للانقضاض علي الشعب «وتحجيبه»، والتهام السلطة وتحويل مصر إلي «دولة دينية» مثل أفغانستان تحت حكم طالبان، أو السودان تحت حكم البشير أو في أحسن الأحوال مثل إيران في ظل آيات الله.
وقد تأكدت ممارسة إبقاء الشعب في «ثلاجة سياسية» بعد خطاب الرئيس في افتتاح الدورة الجديدة لمجلس الشعب والشوري، يوم الأحد ١٩/١١/٢٠٠٦، حيث انتظر المصريون إعلان الرئيس مبارك لخطوات تنفيذية تذيب الجليد الذي تراكم علي امتداد ربع قرن من الركود والجمود، كان المصريون يتوقعون في أضعف الإيمان أن يطلب الرئيس من مجلس الشعب إلغاء حالة الطوارئ، أو تعديل الدستور في المواد التي اجتمعت القوي السياسية المصرية علي ضرورة تغييرها، وفي مقدمتها المادتان ٧٦ و٧٧ المتعلقتان بالترشح لرئاسة الجمهورية، وبالحد الأقصي لشغل منصب الرئيس، هذا هو الحد الأدني الذي كان يأمله المصريون، ولكن كالعادة خيب الرئيس مبارك آمال الناس حتي في تلك الحدود المتواضعة، هذا رغم أن هذه المطالب وغيرها كان قد وعد بها حسني مبارك أثناء حملته الانتخابية لفترة رئاسة خامسة عام ٢٠٠٥، وها هو قد مر أكثر من عام ولم يف الرئيس بوعد واحد من تلك التي كان قد قطعها علي نفسه أمام الشعب، بل أسوأ من عدم الوفاء بالوعود أن الرجل نكص وتراجع عن بعض ما كان قائماً أو مقرراً من قبل، وآية ذلك تأجيله للانتخابات المحلية لمدة سنتين (من أبريل ٢٠٠٦ إلي أبريل ٢٠٠٨) دون سبب وجيه. فالبلاد ليست في حالة حرب، ولم تشهد كوارث طبيعية أو من صنع البشر، تبرر هذا التأجيل، كذلك الإمعان في التنكيل بالمعارضين مثل أيمن نور وطلعت السادات.
أما السبب الحقيقي لهذا النكوص ـ كما يجمع المراقبون ـ فهو خشية النظام المباركي الحاكم من اكتساح الإخوان لتلك الانتخابات المحلية، وهكذا ولنفس السبب كان العوار الذي لحق بتعديل المادة ٧٦ من الدستور في العام الماضي، ألا وهو عدم تمكين الإخوان المسلمين من ترشيح أحدهم لمنصب رئاسة الجمهورية، حيث اشترطت أحد بنود التعديل أن يكون المرشح عضواً قيادياً في «حزب شرعي معترفاً به قانونياً»، ولأن الإخوان المسلمين غير معترف بهم من الحكومة والقانون كحزب، ولا حتي كجمعية أو منظمة مدنية، فلا حق لهم في الترشح. وربما كان ذلك هو أيضاً وراء إلحاح وسائل الإعلام الحكومية في استخدام عبارة «الجماعة المحظورة»، وهو إلحاح فكاهي يضحك الناس من تكراره!
أي أن نظام حكم الرئيس مبارك يرتهن إرادة الشعب المصري كله بسبب خوفه المرضي من الإخوان المسلمين بل وهو يريد أن ينقل هذا الخوف ويشيعه بين أكبر عدد من المصريين، ولا تفوته فرصة للقيام بذلك، وبين الحين والآخر يعطيه الإخوان مثل هذه الفرص، بتصريح أخرق هنا أو هناك. وآية ذلك هجومهم الأخير علي فاروق حسني، وزير الثقافة بسبب جهره برأيه في ظاهرة «حجاب» و«نقاب» المرأة المسلمة، وهو رأي يشاركه فيه كثير من تقاة المسلمين والمسلمات ـ وفي مقدمتهم المفكر الإسلامي الكبير جمال البنا، الشقيق الأصغر للإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان، والذي دافع عن فاروق حسني، بتذكير الناس أن بنات حسن البنا، تربين وعشن ورحلن، وهن غير محجبات (المصري اليوم ١٨/١١).
المهم، وعودة لموضوع هذا المقال وما يتلوه من مقالات في هذه السلسة، فإن حسني مبارك يستخدم الإخوان المسلمين كـ «فزّاعة» لإخافة الناس في داخل مصر وخارجها، ثم يستخدم هذا الخوف أو الفزع لإبقاء الشعب المصري حبيس ثلاجة التجميد السياسي، وهو يمعن في ذلك، لا من أجل مصر أو شعبها، ولكن من أجل بقائه هو في السلطة، كما قال في خطابه الأخير (١٩/١١/٢٠٠٦)، «قائداً إلي آخر نبضة في قلبه»، أي طول الحياة، وربما هذا بالمناسبة هو ما يجعله ينصح غيره من رؤساء الدول بمحاكاته ـ مثلما نقلت عنه وكالات الأنباء أثناء زيارته في أوائل نوفمبر لروسيا، بتحريض الرئيس فلادمير بوتين علي تغيير الدستور الروسي، لكي يظل يترشح «لمدد أخري»، أسوة بالمادة ٧٧ من الدستور المصري الحالي، ليس هذا فقط، بل إن الكثيرين داخل مصر وخارجها يعتقدون أن حسني مبارك لا يريد البقاء في السلطة إلي «آخر نبضة في قلبه» وحسب، بل ويريد توريث هذه السلطة لذويه من الأبناء، وليس فقط لمدة رئاسية واحدة أو حتي لمدتين، ولكن أيضاً «لآخر نبضة في قلب كل منهم»، وطبقاً لهذا الاعتقاد الشعبي الواسع فإن حسني مبارك يريد إبقاء الشعب المصري في ثلاجة التجميد السياسي، ليس فقط طوال حياته، ولكن أيضاً طوال حياة أنجاله، وربما أحفاده، ومصدر هذا الاعتقاد الراسخ هو ما تمتلئ به المادة ٧٦ من الدستور الحالي من شروط تعجيزية، تجعلها تبدو كما لو كانت مادة «تفصيل» علي مقاس أحد أنجال مبارك، ثم حينما يشيع صفوت الشريف، الكاهن الأعظم للحزب الحاكم حالياً، أنه لا مساس بالمادة ٧٧، فهذا معناه إطلاق العنان للرئيس القادم ـ أي الوريث ـ لكي يظل آل مبارك في السلطة خالدين فيها أبدا!
وربما كانت هذه الخواطر والمخاوف هي ما جعلت المشاركين في ملتقي الحوار حول التعديلات الدستورية والإصلاح السياسي (العين السخنة ١٦ ـ ١٨ نوفمبر) يخلصون إلي أن مفتاح أي إصلاح سياسي في مصر المحروسة هو تغيير هاتين المادتين ـ ٧٦ و٧٧ ـ معاً، وأولاً. وكلف المشاركون في الملتقي كلا من الفقيهين الدستوريين د. يحيي الجمل ود. عاطف البنا بإعداد صياغة واضحة للتعديلات المطلوبة لعرضها علي مجلس الشعب والشوري والرأي العام المصري، بل وتنظيم استفتاء شعبي أهلي حولهما، أسوة بما فعل الفلسطينيون والإسرائيليون منذ ثلاث سنوات بشأن اتفاقية افتراضية للسلام للخروج من «ثلاجة» الصراع الممتد بينهما، فليترقب قراؤنا في «المصري اليوم»، وقراء إبراهيم عيسي في «الدستور» و«صوت الأمة»، وقراء أسامة الغزالي حرب في «الأهرام» والصحف السيارة، وقراء أنور عصمت السادات في «الغد»، وقراء يحيي الجمل وعاطف البنا وجمال البنا، وحسين عبدالرازق في «الوفد» و«الأهالي» فهؤلاء جميعاً سيكتبون حول تعديل المادتين ٧٦و٧٧ يوماً، سعياً لكسر الجمود والخروج من «ثلاجة مبارك»، وإذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد للثلج أن ينصهر.
0 comments :
إرسال تعليق